16/04/2022 - 21:39

حوار مع محمد منصور | زيارة رمضانية إلى غزة المحاصرة

قال الاختصاصي النفسي، محمد منصور، الذي يزور قطاع غزة بشكل متواتر في إطار وفد أطباء لحقوق الانسان، والذي عاد من زيارته الأخيرة الأسبوع الفائت، إنه في كل زيارة يصدم من جديد من هول الأوضاع المأساوية التي يعيشها القطاع بفعل الحصار

حوار مع محمد منصور | زيارة رمضانية إلى غزة المحاصرة

أجواء رمضان في قطاع غزة (Gettyimages)

قال الاختصاصي النفسي، محمد منصور، الذي يزور قطاع غزة بشكل متواتر في إطار وفد أطباء لحقوق الانسان، والذي عاد من زيارته الأخيرة الأسبوع الفائت، إنه في كل زيارة يصدم من جديد من هول الأوضاع المأساوية التي يعيشها القطاع بفعل الحصار والعدوان الإسرائيلي المتكرر وما يلحقه من دمار في البنى التحتية والصحية.

وتضررت خلال العدوان الإسرائيلي الأخير الذي وقع في أيار/مايو الماضي 23 منشأة طبية، بعد أن تم استهدافها بشكل مباشر أو غير مباشر بينها مستشفيات ومراكز طبية، ناهيك عن استهداف منشآت البنية التحتية، ومنها منشآت المياه ومحطات معالجة مياه الصرف الصحي وشبكات الكهرباء، ونجم عن ذلك تداعيات خطيرة على الواقع البيئي والصحي نتيجة تسرب مياه الصرف الصحي إلى المياه الجوفية وتلوث مصادر المياه، كما تسبب استهداف محطات معالجة مياه الصرف الصحي، وقصف شبكة الكهرباء العامة في ضخ المياه العادمة إلى البحر دون معالجة الأمر الذي تسبب بمكرهة صحية.

وتزيد هذه العوامل من انتشار الأمراض والأوبئة بين سكان قطاع غزة الذي يفتقد لمنظومة صحية مؤهلة للتعامل مع الأمراض الخطيرة، إذ عملت المستشفيات الفلسطينية على مدى فترة كورونا بطاقة تفوق قدراتها، ضمن ظروف قاسية لم يتوفر فيها ما يكفي من إمكانيات أو طواقم طبية لمواجهة الجائحة، وهو ما أضاف ضغوطا جمّة على المنظومة الصحية الهشة.

وتعاني المرافق الطبية من تدهورٍ خطيرٍ ناجمٍ عن سياسة الحصار التي تفرضها سلطات الاحتلال الإسرائيلية على القطاع منذ 15 عاما، وتتواصل أزمة نقص الأدوية في المستودعات المركزية بوزارة الصحة الفلسطينية، حيث تفيد التقارير بأن عدد الأصناف الصفرية من الأدوية الأساسية قد بلغ 256 صنفا دوائيا من أصل 516 صنفا، بنسبة عجز تصل إلى 49.6%، في حين بلغ عدد الأصناف التي يكفي رصيدها لأقل من ثلاثة أشهر 74 صنفا دوائيا بنسبة عجز 14.3%.

وبلغ عدد الأصناف الصفرية في المستلزمات الطبية 285 صنفا من أصل 853 صنفا أساسيا، لتصبح نسبة العجز 33% من أصنافها، بالإضافة إلى 60 صنفا يكفي رصيدها لأقل من ثلاثة أشهر، بنسبة عجز 10.2%، بحسب إحصائيات وزارة الصحة في قطاع غزة.

ويؤثر النقص المستمر في الأدوية الأسـاسـية والمستلزمات الطبية سلبا على الخدمات الصحية وجودتها، وهو ما يهدد حياة المرضى ويزيد من الأعباء المالية على الفقراء منهم، خاصة عندما يضطرون لشراء الأدوية واللوازم الطبية من القطاع الخاص.

كما تشهد مستشفيات قطاع غزة، نقصا حادا في الكوادر الطبية المتخصصة ذات الكفاءة العالية، ويؤثر ذلك بشكل سلبي على بعض التخصصات الطبية والجراحية، أهمها أمراض الأورام، طب الأسرة، طب الكلى، طب العيون، جراحة القلب، الطب النفسي، طب الطوارئ، الأشعة، طب الروماتيزم، الباثولوجيا وطب الأعصاب.

وبهذا الصدد، حاور "عرب 48" الاختصاصي النفسي، محمد منصور، العائد لتوه من غزة لإلقاء المزيد من الضوء على الأوضاع الإنسانية والصحية التي يعاني منها القطاع المحاصر.

"عرب 48": أنت تدخل قطاع غزة ضمن وفد أطباء لحقوق الانسان، الذي يعتبر في ظل الحصار المفروض عليه الطريق الوحيد إلى غزة، بعد المنع الذي فرضته إسرائيل حتى على زيارات الأقارب عام 2015؟

محمد منصور

منصور: صحيح، فنحن ندخل ضمن تصريح خاص ولمدة محدودة لا تتجاوز 48 ساعة يمكن تمديدها في ظروف معينة إلى 96 ساعة ويشمل التصريح فحوصا واشتراطات صارمة، كما أنه محصور في نطاق زيارة أطباء لحقوق الإنسان فقط. الزيارة تتم مرة في الشهر بمعدل 8-9 زيارات في السنة وتشمل أطباء متخصصين، قسم كبير منهم يقوم بإجراء عمليات جراحية خلال الزيارة، وهذه المرة، مثلا، كان معنا طبيب عظام وطبيب عيون.

كما تقوم الطواقم المهنية المتخصصة بالصحة النفسية بتأهيل الكوادر المحلية المتخصصة للتعامل مع الصدمات النفسية وكيفية القيام باختبارات التقييم للأطفال والبالغين، إضافة إلى معالجة العديد من الحالات الطارئة.

أنا أزور غزة منذ 15 عاما لكن زيارتي هذه المرة جاءت بعد انقطاع قسري دام أكثر من سنة، وإن كنت في كل مرة أصدم من جديد بقسوة الأوضاع فإن صدمتي هذه المرة كانت أشد، لأن الأوضاع لا يمكن أن يتصورها عقل بشري، وأعطيك مثالا بسيطا البيوت التي تم تدميرها في عدوان أيار/مايو الأخير، انتقلت الكثير من العائلات التي كانت تقطنها إلى مجمعات أقيمت خصيصا لهذا الغرض، منها مخيم "نهر البارد 2" الذي يتكون من بيوت صفيح مسقوفة ببطانيات وتفتقر إلى الخدمات الأساسية مثل الكهرباء والمياه، حيث يضطر السكان إلى جلب المياه من مسافات بعيدة.

كما أن البيوت تفتقر إلى النوافذ والأبواب والحمامات وفي ظروف صحية سيئة، ولا يجد سكانها ما يأكلونه، بالمقابل ترى العمال المصريين مع آليات مصرية يعملون على إصلاح أحد البيوت الخاصة الفخمة التي تضررت خلال الحرب، هذه هي المفارقة الصادمة، (وكما هو معروف فإن مصر أخذت على عاتقها إعادة الاعمار بعد العدوان الأخير). هذه التناقضات الموجودة تراكم غضبا كبيرا.

"عرب 48": نفهم أنه بعد مرور سنة على العدوان ما زالت الناس التي دمرت بيوتها تسكن في "العراء" تقريبا وتفتقر إلى الحد الأدنى من شروط الحياة الكريمة؟

منصور: الوضع لا يقتصر على "المخيمات الجديدة" ففي "معسكر خان يونس" وهو أكبر مخيمات اللاجئين، تجد معظم البيوت دون أبواب وشبابيك ومع أرضية رملية، والحديث يجري عن مخيم قائم منذ سنين، بالمقابل لا توجد فرص عمل وإذا توفرت لا يتعدى الأجر 10-20 شيكلا.

أنا دخلت العديد من البيوت ضمن جولات فردية، هناك عائلات كثيرة لا تجد في بيتها حبة تمر وهي تنتظر "التكية"، وهي الوجبة التي يقدمها متطوعون يطبخون في رمضان ويوزعون الطعام على المحتاجين لتكسر صيام أفرادها.

اليوم هناك سخط شعبي على غلاء أسعار الدجاج، خصوصا وأن غالبية العائلات الغزية لا تستطيع شراء اللحوم الحمراء وتكتفي بلحوم الدجاج لأنها رخيصة، وعندما يصبح سعر الدجاجة 20 شيكل فلن يستطيع العامل الذي يبلغ أجره اليومي 20 شيكل شرائها.

بالمقابل تجد الناس يصبرون بكرامة لا يطلبون ولا يتوسلون، وأنا أتحدث عن الغالبية الساحقة من الناس وليس عن متسولي الفيسبوك وهم قلة قليلة.

وعلى المستوى النفسي، فإن نوعية الصدمة في غزة لم أرها في أي مكان آخر في العالم، ليس من حيث مؤشراتها بل في كيفية حماية الناس لأنفسهم منها، فهم يخلقون آلية معينة داخلهم توفر حماية ذاتية من تطور اضطراب ما بعد الصدمة، وكأنهم يصنعون صندوقا يخزنون فيه الآلام المتراكمة لديهم بعد كل عدوان ويجمدونها حتى العدوان القادم ويحضرون أنفسهم لكيفية التعامل مع الصدمة القادمة.

"عرب 48": هم موجودون في حرب مستمرة؟

منصور: نتحدث عن صدمة معقدة ومستمرة لا تعالج كما نفعل بالعادة، فأول شيء نفعله، نحن الأخصائيين النفسيين، مع الإنسان المصدوم هي إقناعه بأن الحدث قد انتهى، وهذا لا يصلح هنا لأن الاعتداءات مستمرة ونعمل معهم على بناء وتعزيز الحصانة النفسية عندهم كي لا ينهاروا في أي ضربة قادمة.

"عرب 48": وما هي المهمات التي يقوم بها الفريق الطبي هناك؟

منصور: الكثير من الناس في غزة يعانون من أمراض مزمنة وأزمات على خلفية حروبات ولا تتوفر فرقا طبية جاهزة لأن تعالج كل هؤلاء المرضى، كما ينقصهم أدوية شهرية وهذه الأدوية تكلف المريض بين 50-70 شيكل في الشهر وهو مبلغ يضاهي 400-500 شيكل عندنا ولا يستطيع غالبية المرضى توفيره، هذا إضافة إلى النقص في الأجهزة الطبية الذي تعاني منه المستشفيات بفعل الحصار المتواصل، ولذلك فإن أطبائنا يدخلون وهم مزودون بالمعدات الضرورية للعمليات، كما يحمل الوفد كميات من الأدوية.

أوضاع الجهاز الطبي في القطاع صعبة جدا، بل هو على حافة الانهيار، فهناك نقص في الأجهزة والمعدات الطبية ونقص في الأسرة والأدوية الأساسية لإسعاف المصابين، وكثيرا ما تتراكم أمراض فوق أمراض بسبب النقص في الأدوية والعلاجات، كما يظهر خلال كل عدوان جديد مدى النقص في المعدات والأدوية الضرورية للإسعافات الأولية للمصابين.

كما أن المرضى الذين يحولون لإجراء عمليات في مناطق الـ48 بعد جهد جهيد وإجراءات بيروقراطية تستغرق شهورا، ولكن بعد أن يحالفهم الحظ ويحصلون على التصريح يضطر قسم كبير منهم إلى الانتظار أسابيع وربما أشهر إلى حين إجراء العملية، وخلال تلك الفترة يضطرون إلى تدبر أمور حياتهم خارج المستشفيات وهم الذين خرجوا من القطاع يحملون الهاتف النقال والهوية فقط.

البعض من هؤلاء يضطرون إلى استئجار بيوت في برطعة أو غيرها من المناطق "الرمادية"، وبعضهم يضطر للتفتيش عن عمل لإعالة أنفسهم، رغم مرضهم، ولحسن الحظ فهناك مؤسسات في الداخل تقدم يد المساعدة منها جمعية "فكر بغيرك"، كما تعمل مجموعة من الطلاب العرب مع الأطفال القادمين من غزة في مستشفى "شنايدر".

"عرب 48": هل الأطباء والخبراء الذين يدخلون إلى غزة هم من العرب واليهود؟

منصور: إنهم من فلسطينيي 48 فقط، فالسلطات الإسرائيلية لا تسمح بدخول اليهود إلى غزة بادعاء الخوف على حياتهم، كما أن حركة "حماس" لا تسمح لهم أيضا بالدخول حرصا على حياتهم، وهكذا يقتصر الوفد على الأطباء والخبراء النفسيين من فلسطينيي 48 وفي كل زيارة يكون فائض من الأطباء والأخصائيين الذين يرغبون بالدخول.

لقد بدأنا بالدخول منذ 15 سنة، بعد أن أعلنت إسرائيل عن "فك الارتباط" مع القطاع وكنا 7-8 أشخاص فقط بسبب الخشية والتوجس، ولكن اليوم في الوفد الأخير كان 25 طبيبا وأخصائيا شاركوا خلال فترة الزيارة بإجراء عمليات وتنظيم أيام طبية بالتعاون مع وزارة الصحة الفلسطينية هناك.

"عرب 48": كيف يتعاملون معكم على المعبر؟

منصور: هناك إجراءات مشددة في الدخول والخروج، وفي كل مرة تقريبا لا بد أن يكون واحد من أعضاء الوفد ممنوع من الدخول بأمر من جهاز الأمن العام (الشاباك)، وهذا ما يؤدي إلى تأخير دخولنا لساعات طويلة، وفي الخروج ممنوع إدخال أي شيء من قطاع غزة ونخضع لإجراءات تفتيش أكثر صرامة.

"عرب 48": أنتم شريان التواصل الوحيد بين مناطق 48 وغزة المحاصرة تحملون إليها بعض الحياة وتحملون منها شوقا وحنين؟

منصور: الشوق والحنين متبادل نحمله من وإلى غزة المعزولة قسرا عن حضن الوطن والمبعدة عنوة عن ضفتها وجليلها وامتدادها الساحلي والصحراوي الفلسطيني، كما نحمل إليها مبضع جراح فلسطيني يخفف بعضا من آلامها وكلمة دافئة تخفف عن النفس الجريحة، وبعض من التكافل الفلسطيني الفلسطيني، فأطباؤنا ينتقلون من المعبر مباشرة إلى غرف العمليات في مستشفيات القطاع ويتناولون فطورهم داخل غرف العمليات، وينفذون هذه العمليات يدا بيد مع أطباء غزيين لغرض التدريب والدعم، ويعودون وهم يحملون الكثير من المعنويات التي تنبعث من هذه البقعة الصامدة من فلسطين.

التعليقات